عقائد الفلاسفة
تتقابل في مذاهب الفلاسفة مدرستان ، تتجدد كل منهما عصرًا بعد عصر .. المدرسة المادية من ناحية ، وفى المقابل المدرسة العقلية أو الروحانية أو المثالية.
مدرسة الماديين ترجع بالمعرفة إلى التجربة المحسوسة .
والمدرسة العقلية أو الروحانية أو المثالية ـ ترجع إلى شىء غير التجربة المحسوسة، وقد تستعين بالتجربة ولا تبطل عملها ، ولكنها لا تسلم بها كمصدر وحيد .
وفى القرن العشرين تقابلت المدرستان ، واتسمت كل منهما بالتطرف في مذهبها .
فقامت مدرسة المنطق الوضعى Positive Logic من جانب ، وقامت بإزائها مدرسة التجريد من جانب آخر، وهي فى الواقع ـ فيما يرى الأستاذ العقاد ـ مذاهب شتى يجمعها النظر فيما وراء الطبيعة .
مدرسة المنطق الوضعى لا ترى محللاًّ للبحث فيما وراء الطبيعة ، لأنها ترجع بالمعرفة كلها إلى الحس .
أما المذاهب الفلسفية الأخرى التي لا تقبل دعوى المنطقيين الوضعيين ـ فتجمعها جامعة واحدة في النهاية ، وهى الرجوع بالمعرفة إلى غير المادة ، أو الرجوع بها إلى ما وراء الطبيعة.
ومن الفلاسفة الذين ينظرون فيما وراء الطبيعة ـ من يقابلون الغلو الوضعى بغلو مثله أو أبعد منه ، فينفون أى معرفة تستغنى عن النظر فيما وراء الطبيعة.
وتناول « سدنى هوك Sidnex Hook» فى كتابه « ما وراء الطبيعة فى مذهب
البرجمية » .. تناول دعوى القائلين بأن الفكر نفسه هو آلة العمل ، فقال إن هذه الدعوى نفسها غير ممكنة ما لم يسلم أصحابها بأن هناك مقررات غير حسية ، لأنهم يقررون وجود عالم لم تخلقه قوة عاقلة ، كما يقررون وجود فكر يعمل فيه ، وأن التغييرات التى يشترك فيها الفكر ليست مثالية أو عقلية فى جوهرها.
غير أن المذاهب الوسطى من مذاهب ما وراء الطبيعة ـ تضيف ولا تحذف . تضيف وسائل البحث الفكرى إلى وسائل التجربة الحسية، ولا تحذف من برنامجها أى وسيلة علمية أو واقعية يستعان بها على المعرفة .
ومعظم المدارس العقلية فى القرن العشرين ـ فيما يورد الأستاذ العقاد ـ تدخل العلم فى تقديرها وترجع إلى إحدى شعبه فى تأسيس دعائمها . منها علم النفس وعلم الطبيعة ، ومذهب النشوء والارتقاء .
ومن المذاهب التي ترجع إلى علم النفس ـ مذهب « الظواهرية » نسبة إلى ظواهر الطبيعة. ومن المذاهب التي ترجع إلى علم الطبيعة ـ مذهب « الزمانية المكانية » .
ومن المذاهب التي ترجع إلى مذهب النشوء والارتقاء ـ مذهب التطور والانبثاق .
ويلخص الأستاذ العقاد فكرة الإيمان فى كل مذهب من هذه المذاهب.
الظواهرية ـ وأشهر فلاسفتها «هسيرل Husserl » الألمانى ـ ترد كل معرفة إلى الوقع أو الخبرة Experience .. وهو أعم من التجربة الحسية والتفكير العقلى ، لأن المعرفة ـ وفقًا لهذا المذهب ـ تتم بما يقع في الوعى من طريق الحس والتفكير والكلام.
فالحس لا يعطينا كل المعرفة، وكذلك التفكير ، كما وأن الكلمات تعطى المعنى ولكن المعنى غير المعرفة التى تقع فى وعى العارف .
أما المعرفة بالله خاصة ، فهى « وقع » مباشر لا يعتمد على الحس ، لأن الله لا يقع تحت الحس ، ولا تعتمد على الفكر لأن الفكر لا يحده ، ولا تعتمد على الكلمات لأن الكلمات تنقل معناها ولا تزيد عليه .
وإنما تستقر المعرفة بالله في الوعى مباشرة بما يقع فيه من جملة المعارف الحسية والفكرية والمعنوية وزيادة عليها .
أما مذهب الزمانية المكانية ـ ورأس القائلين به هو « صمويل ألكسندر » الذى نشأ فى استراليا وعاش فى إنجلترا ـ وصفوة الرأى فيه أن الوجود حركة ، وأن الحركة الأولى نشأت من اتصال الزمان بالمكان ، وأن صفات الموجودات هى جملة حركات منوعة ، وأن الله هو غاية هذه الحركات . فهو الكمال التالى لكل مرحلة ينتهى إليها الكون .
وكأنما يقول الفيلسوف « صمويل ألكسندر » إن الحركة هى الزمان، وإن الأثير هو المكان ، وإن المادة وجدت حين وجد الشعاع الذى به اتصل الزمان بالمكان ، وإن تنوع الموجودات إنما جاء من تلاقى الحركات واتحادها .
أما مذاهب التطور الانبثاقى أو التطور المنبثق وسائر المذاهب التي تمت إلى النشوء والارتقاء ـ فإن لها شراح كثيرون ، وهى مذاهب واسعة الآفاق وكل أقطابها يؤمنون بوجود القوة الإلهية على اختلاف فى تصوير علاقتها بالكون والإنسان . والمهم فى هذه الفلسفات بالنظر إلى موضوع الكتاب ـ أن وجود الله لازم فيها لتفسير كل موجود ، وأن أصحاب هذه المذاهب مؤمنون فلسفيون ، وإن لم يكونوا مؤمنين بالديانة الرسمية .
وللفيلسوف والمؤرخ وعالم الآثار البريطانى « روبن جورج كولنجوود» ( 1889 ـ 1943 ) كتاب بعنوان « فكرة الطبيعة« The Idea of Nature ـ أجمل فيه موقف الفلسفة من العلم ، وقال إن العلماء الطبيعيين بعد أن تتبعوا نظرياتهم عن المادة إلى حيث تنكشف حدود العالم الطبيعـى وتنكشـف حاجة هذا العالم إلى الاعتماد على غيره ـ أطلقوا « اسم الله » على ذلك السند الذى يعتمد عليها ، وأن اللجوء إلى هذا الاسم يقابل بالترحاب لأنه يظهر مدى تحرر الفكر الحديث من قيود المثالية الذهنية.
ومن رأى « كولنجوود » ـ فيما يسوق الأستاذ العقاد ـ أن المادية لم تصل منذ ظهورها فى القرن السابع عشر إلى محصل ، ولم يزل ربها ـ أى الكون المادى ـ إله خوارق وأعاجيب تخفى على العقول وأنها تعلق رجاء على الغيب عسى أن يجلو الزمن أسراره مع تقدم العلوم .
وهناك فى عالم الفلسفة الإنجليزية ـ أناس مثل « كولنجوود » يُسمع حكمهم في المسائل الفلسفية ، ولا يُسلكون بين أصحاب المذاهب والمدارس ، وقيمة آرائهم آراء مستقلين لا يعنيهم ترويج هذا المذهب أو ذاك .
من هؤلاء غير « كولنجوود » ـ أستاذان لا يقلان عن أقطاب المذاهب ، ولا يعيبهما أنهما لا يوجد مذهب يُسْند إليها . بل لعل ذلك يشهد لهما بأمانة العلم والحيدة . هذان هما الأستاذ « برود ـ « Broad ، والأستاذ « جود Joad » ـ وهما من أساتذة الفلسفة والأخلاق وعلم النفس ، وأصحاب التواليف المحترمة في هذه الموضوعات .