بعـد النـبى
عاشت السيدة عائشة بعد النبى عليه السلام ستًّا وأربعين سنة ، وتوفيت سنة 58هـ / 678م وهى فى نحو السبعين من عمرها .
وقد توفى النبى علية الصلاة والسلام فى بيتها الذى أقام فيه بمرضه الأخير ، ودفن بالمكان الذى كان ينام فيه .
وحينما قُبض النبى عليه السلام ، روِّعت السيدة عائشة روعًا كبيرًا ، وتعاظم الخطب أن تملك صبرها وهو يموت بين سحرها ونحرها .
وقد وصفت هذه اللحظات الهائلة فقالت : ـ
« … وجدت رسول الله صلى الله عليه وسلم يثقل فى حجرى ، فذهبت أنظر فى وجهه فإذا بصره قد شخص وهو يقول : « بل الرفيق الأعلى من الجنة » قلت : خُيِّرت فاخترت والذى بعثك بالحق . وقبض بين سحرى ونحرى ودولتى ولم أظلم أحدًا . فمن سفهى وحداثة سنى أنه صلى الله عليه وسلم قبض وهو فى حجرى ، ثم وضعت رأسه على وسادة وقمت ألتدم ( الضرب على الصدر والوجه ) مع النساء وأضرب وجهى » .
ولم تشهد دفنه الذى تم بعد وفاته بيومين ، قام بحفر اللحد « أبو طلحة » لتصادف غياب « أبى عبيدة بن الجراح » عن المدينة ، وتولى القائمون على الجثمان الكريم دفنه .
قالت عائشة وفاطمة : « ما علمنا بدفنه r حتى سمعنا صوت المساهى ( أحاديث المساء ) من جوف الليل » .
ولم تبارح السيدة عائشة هذه البقعة الخالدة التى عاشت فيها ، إلاَّ للعمرة أو الحج أو لزيارة قريبة ، وقلّما كانت تزور .
فقد اتخذت سكنها فى الحجرة المجاورة لقبرة ، ولا تحسب أنها قد فارقت منه غير مشهد جثمانه ، فكانت تزوره زيارة الأحياء . ودُفِن أبوها إلى جواره بعد سنتين ، ثم أجابت عمر بن الخطاب إلى طلبه منها الإذن بأن يُدفن إلى جوار صاحبيه فأذنت ، ومنذ دفن عمر معهما جعلت لا تزور إلاَّ بعد أن تلبس ملابس الحجاب ، كأنهم على قيد الحياة .
وكانت السيدة عائشة فى أوائل العقد الثالث عند وفاته عليه السلام ، فعاشت فى صحبته زهاء عشر سنين ، وعاشت فى ذكراه زهاء خمسين سنة .
ومن أهم ما يلاحظ فى حياة السيدة عائشة بعد النبى عليه السلام ، أنها قضت خلافة الشيخين وهى لا تشعر بأن مكانها فى عهد النبى قد تغيّر ، أو أن أمرًا من أمور السياسة يستدعى التعرض رضًا أو سخطًا .
فى عهد أبى بكر كانت أمور الدين والدنيا تجرى على أحكام الدين ووفق سنّة
رسول الله r التى لم يكن الصديق يقبل أن يحيد عنها قيد أنملة .
وكان عمر ، أهْيَب خليفة عرفه الإسلام ، وأحب الخلفاء إلى السيدة عائشة رضى الله عنها ، وكانت عائشة وحفصة بنت عمر على أقوى ما تكون الصداقة والوداد اللذان سَرَيا إليهما عن أبويهما .
ولكن الأمور تغيرت فى عهد عثمان .
ولولا هذا التغيير لما عُرف للسيدة عائشة نصيب من السياسة العامة بعد وفاة النبى ، وهو الموقف الذى تحولت بها الأحوال إليه عمّا التزمته فى حياة النبى وبعده وفاته لقرابة عشرين عامًا .
فى السياسة العامة
سبق الحديث عن « حدة الطبع » الموروثة عن الصدّيق ، ومثلها برفعة مكانها وبهذا الطبع ـ لا تعرف الفراغ .
ومن السهل الإلمام بهذه « الحدة » بعد إلمامة يسيرة بمزاجها وتكوينها الذى يشبه تكوين أبيها ، ومن ثم أن نعرف كيف يتعذر الفراغ على هذه السليقة الحية .
ولا يفوت القارئ أن الأستاذ العقاد يمهد بذلك إلى ما سوف يجئ .
وقد كان من « أصول » السياسة العليا فى معاملة السيدة عائشة وأمهات المؤمنين ، أن تظل كل منهن بالمكانة المعروفة لها .
وكانت هذه الرعاية لها ولغيرها من أمهات المؤمنين واجبًا لها ولهن وجوب الحق ووجوب المصلحة وجوب السياسة .
وكان هذا الحق « أصلاً مرعيًّا » فى عهد أبى بكر وعمر .
ولكن هذا الأصل المرعى خولف وعُدل عنه فى خلافة عثمان ، لأسباب يرجع بعضها إلى حكومة عثمان ، وبعضها إلى طوارئ الزمن ، وبعضها إلى السيدة عائشة إما اختيارًا أو وفقًا لما تحولت بها إليه ودافع الأحوال .
* * *
جاء الخطأ الأول فى هذه السياسة من القائمين بالأمر فى حكومة عثمان ، بنقص العطاء الذى كان مقدورًا للسيدة عائشة فى عهد الفاروق ، وقد كان يمكن لهذا الانتقاص أن يكون مقبولاً عندها وعند المسلمين والمسلمات ـ إذا دعت إليه حاجة فى خزانة الدولة ، بيد أنه جاء على العكس وخزانة الدولة تتدفق إليها الأموال بالألوف التى جاوزت الملايين من الدنانير ، من أنفال وغنائم الفتوحات .
وكان طبيعيًّا أن تغضب السيدة عائشة لذلك ، لا حرصًا على مال يُبذل فى ترفٍ أو للمكاثرة والادخار ، فقد كانت صوامة قوامة لا تنفق المال فى غير الكفاف ، وتوالى التصدق والإحسان إلى المعوزين .
إنما كان هذا الغضب للمعنى والغضاضة من تصرف لا حاجة إليه ولا حكمة فيه ، ولا تستريح إليه النفس .
وقد أدت سياسة حكومة عثمان إلى شيوع النقد والسخط من ولاة عثمان والحاشية ، وكثرت الاعتراضات على مخالفتهم للدين وتوسعهم فى اقتناء الدور وغيرها من ثمرات الأموال .
ومن أمثلة فساد السياسة العامة ، أن تم عزل سعد بن أبى وقاص عن الكوفة ، وهو من أجلّة وأعلام الصحابة المحبوبين ، وأحد العشرة المبشرين بالجنة ، وزاد الطين بلّة أنه لم يُعَين صنوٌ له ، وإنما جرت تولية « الوليد بن عقبة » أخى عثمان لأمه ، ورغم أنه كانت عليه مآخذ كثيرة فى حياة النبى عليه السلام ، ولم يقبل عودته إلى باحة الإسلام إلاَّ بشفاعة ملحة من عثمان بن عفان .
وكان الوليد مهتمًّا فضلاً عن ذلك بتعاطى الخمر ، وشاع فى المدينة أنه أَمَّ الناس بالكوفة يومًا وهو سكران ، وأنه لما فرغ من الصلاة التفت للمصلين وقال : هل أزيدكم ؟ إنى أجد فى نفسى نشاطًا !!
ولم يكن غريبًا أن يلجأ المتضررون والمعترضون والشاكون من ذلك ، إلى بيت السيدة عائشة فيمن لجأوا إليهم بالشكوى من كبار الصحابة .
فتبرمت بهم الحاشية وبرأوا الوليد عند عثمان مما اتهمه به أهل مصره . فقال لهم : أكلما غضب رجل منكم على أميره رماه بالباطل ؟ لئن أصبحت لكم لأنكلنّ بكم . فاستجاروا ببيت النبى وعائشة .
ثم أصبح عثمان « فسمع من البيت صوتًا وكلامًا فيه بعض الغلظة ، فقال مغضبًا : أما يجد مراق ( من المروق ) أهل العراق وفساقهم ملجأ إلا بيت عائشة ؟! فسمعته ، فقيل إنها رفعت نعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت : تركت سنة رسول الله صاحب هذه
النعل ؟ .. وتسامع الناس فجاؤوا حتى ملأوا المسجد . فمن قائل : أحسنت ، ومن قائل : ما للنساء وهذا ؟ حتى تحاصبوا وتضاربوا بالنعال ، ودخل رهط من أصحاب رسول الله على عثمان وناشدوه الله أن يعزل أخاه » .
وأدى لين تعامل عثمان مع الحاشية ، إلى تزايد المخالفات ومن ثم تزايد النقد والاعتراضات . من ذلك أن المصريين شكوا من والى عثمان ـ عبد الله بن أبى سرح ، وكان عليه بدوره مآخذ ثقيلة فى حياة النبى عليه السلام ، واتهمه المصريون بقتل رجل من الذين تقدموا بشكوى منه إلى الخليفة فأرسلت السيدة عائشة استجابة لمن لجأوا بالشكاية إليها ـ أرسلت إلى الخليفة عثمان تندد بواليه وتقول له : تقدم لك أصحاب رسول الله وسألوك عزل هذا الرجل فأبيت ، ثم ها هو قد قتل منهم رجلاً فأنصفهم منه !
وجعلت وفود المصريين يلقون المصلين بالمسجد فى مواقيت الصلاة ، ويبسطون المظالم الواقعة عليهم ، وشكوا إلى كبار الصحابة وإلى أم المؤمنين عائشة ، واختار الشاكون وغيرهم « محمد بن أبى بكر » ليخلف عبد الله بن أبى سرح فى مصر حين خيرهم الخليفة فيمن يؤثرونه للولاية بعده .
ثم وقعت الطامة ، أن ضبطت الوفود حال عودتها لبلادها ـ غلامًا يحمل كتابًا فى أنبوبة من رصاص ، إلى عبد الله بن أبى سرح ، وفيه أنه : « إذا أتاك محمد بن أبى بكر ومن معه فاحتل فى قتلهم وأبطل كتابه وقرّ على عملك حتى يأتيك رأيى فى ذلك إن شاء الله » .